دوامة العنف لا ترحم الأطفال والاعتداءات تتلاحق
كتب أسرار شبارو في “الحرة”:
تصدرت قضية العنف ضد الأطفال اهتمام الرأي العام في لبنان، بعد موجة أخبار تحدثت عن رعب يحيق بالأطفال خلف جدران يفترض أن تكون مأوى آمنا لهم، لكن كثيرين منهم يتعرضون للضرب وأحيانا الاغتصاب أو الموت، بحسب التقارير، ولا تزال العديد من مآسي العنف ضد الأطفال مستمرة إذ لم يُرفع عنها الستار.
آخر القضايا التي صدمت اللبنانيين فيديو مسرّب من داخل حضانة Garderêve في منطقة المتن الشمالي، يظهر كيف تقوم مربية بتعنيف الصغار لفظيا وجسديا، سواء بإجبارهم على تناول الطعام غير آبهة بتعريضهم للاختناق أو برميهم على الكرسي وضربهم على رأسهم، وبعدما وصل المقطع المصوّر إلى أحد الآباء تقدم الأهالي بشكوى أمام النيابة العامة، فأعلنت القوى الأمنية بأن مفرزة الجديدة القضائية فتحت تحقيقا في القضية بناء على إشارة القضاء المختص.
والدة طفلة معنّفة أشارت عبر الإعلام أنه بعد مشاهدتها للفيديو المسرّب علمت سبب الحالة الهستيرية التي تعاني منها ابنتها البالغة من العمر 11 شهرا، وبكائها بصورة غير طبيعية أثناء نومها، مشيرة إلى حاجتها لطبيب نفسي.
اتخذت القاضية المنفردة في بعبدا الناظرة في قضايا أحداث في جبل لبنان، جويل أبو حيدر، قرارا بمنع الحضانة من فتح أبوابها ابتداء من تاريخ صدور القرار، وتم إقفالها بالشمع الأحمر، في حين أكّد وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس أبيض أن الوزارة شكّلت بسرعة فريقاً للتحقيق في هذه القضية، كاشفاً أن الإجراء الأول هو توقف عمل الحضانة المعنية لحين صدور نتائج التحقيقات، مشددا على أن “الإجراءات ستذهب أبعد من ذلك”.
وأجرى عضو “تكتل الجمهورية القوية”، النائب رازي الحاج، اتصالا برئيس قسم الصحة في المتن وسام حبشي، لمتابعة القضية، وشدد عبر حسابه على “تويتر” على أنه “لا للتساهل في هذا الأمر ولإنزال أشد العقوبات بحق كل مسؤول لا يلتزم رعاية الأطفال واحتضانهم. أطفالنا بحاجة لحضن سالم من كل أذى والطفولة بهجة الحياة وسعادتها ولن نسكت قبل اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق المرتكبين. ونحن على تواصل مع رئيس قسم الصحة الدكتور وسام حبشي لمتابعة إجراءات عملية ختم المؤسسة بالشمع الأحمر”.
من القضايا التي أثارت الرأي العام والتي لا يزال اللبنانيون يترقبون نتائج ما ستصل إليه التحقيقات، هي قضية الطفلة لين طالب، البالغة من العمر ست سنوات، التي فارقت الحياة قبل حوالي أسبوع بسبب نزيف ناجم عن اعتداء جنسي تعرضت له على مدى أيام. ابنة عكار في شمال لبنان قررت تمضية عيد الأضحى في منزل جديها مع والدتها المنفصلة عن والدها، فعانت من ارتفاع حاد في حرارتها، وبعد اصطحابها إلى المستشفى رفض جدها إدخالها رغم معرفته أن حالتها تستدعي ذلك.
التحقيقات في قضية لين مستمرة، وقد توسعت النيابة العامة فيها، بحسب الخبيرة بالحماية الأسرية رنا غنوي “نتيجة تضارب الإفادات حيث يُنتظر صدور نتائج الفحوصات الجنائية التي تحتاج إلى عشرة أيام، وذلك بعد أخذ عينات من جميع المشتبه بهم وهم آخر من التقوا بالضحية على مدى 20 يوماً قبل وفاتها”.
كما ضج لبنان قبل أيام بخبر تعرّض طفلة سورية تبلغ من العمر 13 سنة لاعتداء جنسي من سائق “توك توك” خلال توجهها برفقة شقيقتها البالغة من العمر ثماني سنوات لشراء بطاقة تعبئة هاتف خلوي في البقاع شرقيّ لبنان. من بلدة مجدل عنجر انطلقتا عبر باص لنقل الركاب باتجاه شتوره، وعندما وجدت أن المحلات مغلقة بسبب العيد قررت التوجه عبر توك توك إلى بلدة تعنايل، فسلّمها سائقه إلى زميل له، توجه بها إلى جهة مجهولة واعتدى عليها بعد رمي شقيقتها الصغرى أرضاً.
المسافات بين البلدات البقاعية طويلة، وفي ظل غياب وسائل النقل العام يضطر السكان بحسب غنوي “للاعتماد على وسيلة التوك توك كونها منخفضة التكلفة” لكن علامات استفهام عدة تحتاج إلى إجابات، منها كما تقول “إن كانت الضحية قصدت المكان للغاية التي أفصحت عنها أم أن هناك من استدرجها، مع العلم أن ممارسة فتاة ما دون سن الـ 16 للجنس مع بالغ وإن كانت بإرادتها، يعتبر إغواء لها، كونها لا تملك الملكة الفكرية والعاطفية لأخذ مثل هكذا قرار، كذلك فيما إن كان أهلها على علم بقطع ابنتيهما كل هذه المسافة”.
ويوم الأحد الماضي تفاعل الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي بفيديو بثته صفحة “وينية الدولة” على” فايسبوك” يظهر والدة تقوم بضرب طفلها بوحشية للضغط على والده المنفصل عنها بأخذه وشقيقه، مهددة بذبحه، قبل أن تسارع إلى إرسال فيديو لذات الصفحة لتبرير سبب إقدامها على ذلك، بأن والدهما لا يسأل عنهما ولا يقبل بتثبيت زواجه منها وتسجيلهما، في وقت تصارع هي لتأمين الحد الأدنى من حاجتهما.
ما حصل مع الطفل الذي تعرض للضرب على يد والدته ليس فقط سوء معاملة، بل استغلال أيضا، كما تشدد غنوي “إذ للأسف يستخدم الأطفال كورقة ضغط من قبل الوالدين، لاسيما من قبل الوالد كوننا في نظام أبوي، حيث يدفعون ثمن أخطاء سوء اختيار والديهما لبعضهما البعض وسوء التواصل بينهما، يساعد على ذلك غياب قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، يبيح التعامل الصحيح ويعاقب على التصرفات الخاطئة”.
ومن الحوادث التي أضاء عليها الإعلام: طفل سوري طرده والده من المنزل، انتقل من العاصمة بيروت إلى شمال لبنان ليفترش الطرق وحيداً من دون سقف يأويه، ومن دون أن يعلم كما أشار سبب رفضه من عائلته.
ما يتعرض له أطفال لبنان يستوجب، كما تقول مديرة المشاريع في جمعية “حماية”، باتريسيا خوري، “دق ناقوس الخطر كي تتحرك كافة الجهات المعنية وتُضَافر جهودها لتلبية حاجات الأطفال وحمايتهم من العنف المتزايد ليس فقط لناحية عدد الحالات، بل كذلك في ما يتعلق بنوعية الاعتداءات المخيفة”.
بلغة الأرقام، سجّلت حماية في عام 2022، 2766 حالة عنف، وأدارت 2412 منها، 27% تتعلق بحالات إهمال، 29% عنف جسدي بعد أن كانت 21% في العام 2021، 21% عنف نفسي، 11% استغلال، كما ارتفعت نسبة العنف الجنسي 4% عن عام 2021 حيث وصلت إلى 12%، وخلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام استجابت حماية لـ 1415 حالة عنف، 26% منها إهمال، 18% عنف نفسي، 29% عنف جسدي، 18% استغلال، و10% عنف جنسي.
كذلك أكدت غنوي أنه منذ أربع سنوات وحالات العنف الأسري ضد الأطفال إلى ارتفاع، “من دون أن يعني ذلك أنه لم نكن نشهد مثل هذه الحالات، لكن مع الوقت ازداد منسوب البوح والتبليغ نتيجة الوعي بخطورة الأمر وانعكاساته”.
أمور عده تقف خلف ارتفاع حالات العنف بحسب غنوي، “على رأسها انحلال كامل المنظومة وتحللها، من منظومة الحماية إلى منظومة القانون والردع وإدارة الأزمات والخدمات، وأبسط مثال على ذلك أن القانون يجيز للطبيب الشرعي المكلف من قبل النيابة العامة رفض الذهاب لمعاينة قاصر تعرضت للاغتصاب، ورغم استمرار تحديد بدل أتعابه على سعر صرف 15,000 ليرة، إلا أنهم لا يزالون يتعاونون كنوع من التطوع”.
ومن الأسباب كذلك كما تقول “اتساع رقعة الفقر التي تؤدي في كل دول العالم وليس فقط لبنان إلى ارتفاع منسوب الجريمة وتراجع تطبيق القانون، فكل شخص لديه ميول عنفية سيقدم على تجسيدها، كما هو حال حادثة القماطية، حيث أقدم رجل على إطلاق النار على طليقته بعد أربع سنوات من انفصالهما لمجرد رؤيتها تجلس خلف شاب يقود دراجة نارية، وهي الآن تقبع في المستشفى”.
أما خوري فتعتبر أن تدهور الوضع الاقتصادي على رأس أسباب ارتفاع عدد حالات العنف في لبنان، وتقول: “أصبح من المستحيل تلبية الاحتياجات المتزايدة والملحة للأطفال إن كان من قبل الجمعيات، أو الأهل أو السلطة أو المدارس، فالخدمات التي كانت تقدم لهم أصيبت بالشلل، في ذات الوقت شعور الأهل بالعجز يدفعهم إلى إستراتيجيات تأقلم سلبية، ما يزيد من الضغوط النفسية التي يعانون منها ويعرض أطفالهم إلى مخاطر إضافية”.
لكن لا شيء، كما تشدد خوري، يبرر تعنيف الأطفال، مشيرة إلى ضرورة الحد من ذلك بصورة سريعة، “بدءا من تمويل قطاع حمايتهم المكلف، وإذا كان الأمر يتوقف على إصلاحات الحكومة فإنه للأسف حمايتهم ليس من ضمن أولوياتها”.
أصبح العنف في لبنان “كالعدوى السيئة”، كما تصف غنوي، “ينتقل من مكان إلى آخر، في وقت لا تتمكن القوى الأمنية من تلبية كل النداءات نتيجة النقص في عددها وعديدها، رغم أن نظام الحماية يجب أن يكون متكاملا لا تشوبه عيوب وتراخ من أي طرف معني به”.
وتضيف “خلال وضع إجراءات موحدة مع اليونيسيف حول كيفية إدارة حالة الأطفال المعرضين للعنف في العام 2014، ابتدأ نقاش لم ينته بعد، حول عبارة ما يبيحه العرف من عنف، كونه إذا كان لا يفترض أن يبيح العرف الضرب، إلا أننا في بيئة شرقية تتبع هذا النظام منذ مئات السنوات، حيث إن 70% من الأهالي يعتبرون التأديب الخفيف كنوع من وسائل التربية، وبالتالي من غير الممكن الطلب منهم التوقف عن ذلك فجأة، اذ كل ما يمكن فعله هو توعيتهم حول تأثير العنف على حياة وصحة ونمو أطفالهم كما ينص القانون 422 وذلك للتخفيف من هذه الحالات وصولاً إلى انتفائها”.
غنوي تلفت إلى أن “قانون الحماية رقم 422 هو قانون حديث يحتاج إلى تطوير وتعزيز، كي يشمل كل ما له علاقة بحماية الأطفال بعيداً عن التدخلات السياسة، وهذا الأمر يحتاج إلى عمل كبير بدأنا به على الأمل الوصول إلى هدفنا”.
إضافة إلى الآثار الجسدية يؤدي العنف ضد الأطفال بحسب خوري إلى آثار نفسية على المديين القصير والبعيد، يمكن أن تظهر على شكل “اضطرابات سلوكية واكتئاب وأفكار انتحارية وممارسة العنف، إضافة إلى التسرّب من التعليم، واكتظاظ السجون في المستقبل، واستمرار مسلسل تعنيف الأطفال على المدى البعيد، فعندما يكبّر هؤلاء سيمارسون العنف على أبنائهم، كون العنف لا يولد سوى عنفاً”.
أما غنوي فتشير إلى ضرورة اخضاع “أي طفل يتعرض لسوء معاملة وواجه تجارب صعبة كالاغتصاب والتحرش الجنسي لجلسات علاج نفسي، بغض النظر عن مدى استجابته وتعافيه الذي يتوقف على شخصيته ودعم أهله له ومهارة الأخصائي النفسي”.